كان سليمان قد آتاه الله من كل شيء، وكان له عرش عظيم، أخبره بهذا النبأ العظيم، حيث كان في الدنيا من يشاركه فيما يقرب من ذلك. ولم يلتفت سليمان لذلك، إذ كان معرضا عن أمور الدنيا. فانتقل الهدهد إلى الإخبار إلى ما يتعلق بأمور الدين، وما أحسن انتقالات هذه الأخبار بعد تهدد الهدهد وعلمه بذلك، أخبر أولا باطلاعه على ما لم يطلع عليه سليمان، تحصنا من العقوبة، بزينة العلم الذي حصل له، فتشوف السامع إلى علم ذلك. ثم أخبرنا ثانيا يتعلق ذلك العلم، وهو أنه من سبأ، وأنه أمر متيقن لا شك فيه، فزاد تشوف السامع إلى سماع ذلك النبأ. ثم أخبر ثالثا عن الملك الذي أوتيته امرأة، وكان سليمان عليه السلام قد سأل الله أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. ثم أخبر رابعا ما ظاهره الاشتراك بينه وبين هذه المرأة التي ليس من شأنها ولا شأن النساء أن تملك فحول الرجال، وهو قوله: * (وأوتيت من كل شىء) *، وقوله: * (ولها عرش عظيم) *، وكان سليمان له بساط قد صنع له، وكان عظيما. ولما لم يتأثر سليمان للإخبار بهذا كله، إذ هو أمر دنياوي، أخبره خامسا بما يهزه لطلب هذه الملكة، ودعائها إلى الإيمان، وإفراده بالعبادة فقال: * (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله) *، وقد تقدم القول: إنهم كانوا مجوسا يعبدون الأنوار، وهو قول الحسن. وقيل: كانوا زنادقة.
وهذه الإخبارات من الهدهد كانت على سبيل الاعتذار عن غيبته عن سليمان، وعرف أن مقصد سليمان الدعاء إلى توحيد الله والإيمان به، فكان ذلك عذرا واضحا أزال عنه العقوبة التي كان سليمان قد توعده بها. وقام ذلك الإخبار مقام الإيقان بالسلطان المبين، إذ كان في غيبته مصلحة لإعلام سليمان بما كان خافيا عنه، ومآله إلى إيمان الملكة وقومها. وفي ملك هذه المرأة ومكانها على سليمان، وإن كانت المسافة بينهما قريبة، كما خفي ملك يوسف على يعقوب، وذلك لأمر أراده الله تعالى. قال الزمخشري: ومن نوكي القصاص من يقف على قوله: * (ولها عرش عظيم) *، وجدتها يريد أمر عظيم، إن وجدتها فر من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيمة وهي نسخ كتاب الله. انتهى. وقال أيضا فإن قلت: من أين للهدهد الهدى إلى معرفة الله ووجوب السجود له، وإنكار السجود للشمس، وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟ قلت: لا يبعد أن يلهمه الله ذلك، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات المعارف اللطيفة الت لا تكاد العقلاء يهتدون لها. ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان خصوصا في زمان بني سخرت له الطيور وعلم منطقها، وجعل ذلك معجزة له. انتهى.
وأسند التزيين إلى الشيطان، إذ كان هو المتسبب في ذلك بأقدار الله تعالى. * (فصدهم عن السبيل) *، أي الشيطان، أو تزيينه عن السبيل وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة. * (فهم لا يهتدون) *، أي إلى الحق. وقرأ ابن عباس، وأبو جعفر، والزهري، والسلمي، والحسن، وحميد، والكسائي: ألا، بتخفيف لام الألف، فعلى هذا له أن يقف على: * (فهم لا يهتدون) *، ويبتدىء على: * (ألا يسجدوا) *. قال الزمخشري: وإن شاء وقف على ألا يا، ثم ابتدأ اسجدوا، وباقي السبعة: بتشديدها، وعلى هذا يصل قوله: * (فهم لا يهتدون) * بقوله: * (ألا يسجدوا) *. وقال الزمخشري: وفي حرف عبد الله، وهي قراءة الأعمش: هلا وهلا، بقلب الهمزتين هاء، وعن عبد الله: هلا يسجدون، بمعنى: ألا تسجدون، على الخطاب. وفي قراءة أبي: ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السمائ والأرض ويعلم سركم وما تعلنون، انتهى. وقال بن عطية: وقرأ الأعمش: هلا يسجدون؛ وفي حرف عبد الله: ألا هل تسجدون، بالتاء، وفي قراءة أبي: ألا تسجدون، بالتاء أيضا؛ فأما قراءة من أثبت النون في يسجدون، وقرأ بالتاء أو الياء، فتخريجها واضح. وأما قراءة باقي السبعة فخرجت على أن قوله: * (ألا يسجدوا) * في موضع نصب، على أن يكون بدلا من قوله: * (أعمالهم) *، أي فزين لهم الشيطان أن لا يسجدوا.