تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ١٢٣
لما ذكر أن الممتعين في الدنيا يحضرون إلى النار، ذكر شيئا من أحوال يوم القيامة، أي واذكر حالهم يوم يناديهم الله، ونداؤه إياهم يحتمل أن يكون بواسطة وبغير واسطة؛ * (فيقول أين شركائى) *؟ أي على زعمكم، وهذا الاستفهام على جهة التوبيخ والتقريع؛ والشركاء هم من عبدوه من دون الله، من ملك، أو جن، أو إنس، أو كوكب، أو صنم، أو غير ذلك. ومفعولا * (تزعمون) * محذوفان، أحدهما العائد على الموصول، والتقدير: تزعمونهم شركاء. ولما كان هذا السؤال مسكتا لهم، إذ تلك الشركاء التي عمدوها مفقودون، هم أوجدوا هم في الآخرة حادوا عن الجواب إلى كلام لا يجدي.
* (قال الذين حق عليهم القول) *: أي الشياطين، وأئمة الكفر ورؤوسه؛ وحق: أي وجب عليهم القول، أي مقتضاه، وهو قوله: * (لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) *. و * (هؤلاء) *: مبتدأ، و * (الذين أغوينا) *: هم صفة، و * (أغويناهم كما غوينا) *: الخبر، و * (كما غوينا) *: صفة لمطاوع أغويناهم، أي فغووا كما غوينا، أي تسببنا لهم في الغي فقبلوا منا. وهذا الإعراب قاله الزمخشري. وقال أبو علي: ولا يجوز هذا الوجه، لأنه ليس في الخبر زيادة على ما في صفة المبتدأ. قال: فإن قلت: قد وصلت بقوله: * (كما غوينا) *، وفيه زيادة. قيل: الزيادة بالظرف لا تصيره أصلا في الجملة، لأن الظروف صلات، وقال هو: * (الذين أغوينا) * هو الخبر، و * (أغويناهم) *: مستأنف. وقال غير أبي علي: لا يمتنع الوجه الأول، لأن الفضلات في بعض المواضع تلزم، كقولك: زيد عمرو قائم في داره. انتهى. والمعنى: هؤلاء أتباعنا آثروا الكفر على الإيمان، كما آثرناه نحن، ونحن كنا السبب في كفرهم، فقبلوا منا. وقرأ أبان، عن عاصم وبعض الشاميين: كما غوينا، بكسر الواو. قال ابن خالويه: وليس ذلك مختارا، لأن كلام العرب: غويت من الضلالة، وغويت من البشم. ثم قالوا: * (تبرأنا إليك) *، منهم ما كانوا يعبدوننا، إنما عبدوا غيرنا، و * (إيانا) *: مفعول * (يعبدون) *، لما تقدم الفصل، وانفصاله لكون يعبدون فاصلة، ولو اتصل، ثم لم يكن فاصلة. وقال الزمخشري: إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم؛ وإخلاء الجملتين من العاطف، لكونهما مقرونين لمعنى الجملة الأولى. انتهى.
* (وقيل ادعوا شركاءكم) *: لما سئلوا ابن شركاؤكم وأجابوا بغير جواب، سئلوا ثانيا فقيل: ادعوا شركاءكم، وأضاف الشركاء إليهم، أي الذين جعلتموهم شركاء لله. وقوله: * (ادعوا شركاءكم) *، على سبيل التهكم بهم، لأنه يعلم أنه لا فائدة في دعائهم، * (فدعوهم) *، هذا لسخافة عقولهم في ذلك الموطن أيضا، إذ لم يعلموا أن من كان موجودا منهم في ذلك الموطن لا يجيبهم، والضمير في * (ورأوا) *. قال الضحاك ومقاتل: هو للتابع والمتبوع، وجواب لو محذوف، والظاهر أن يقدر مما يدل عليه مما يليه، أي لو كانوا مؤمنين في الدنيا، ما رأوا العذاب في الآخرة. وقيل: التقدير: لو كانوا مهتدين بوجه من وجوه الحيل، لدفعوا به العذاب . وقيل: لعلموا أن العذاب حق. وقيل: لتحيروا عند رؤيته من فظاعته، وإن لم يعذبوا به، وقيل: ما كانوا في الدنيا عابدين الأصنام. وقال أبو عبد الله الرازي: وعندي أن الجواب غير محذوف، وفي تقريره وجوه: أحدها: أن الله إذا خاطبهم بقوله: * (ادعوا شركاءكم) *، اشتد خوفهم ولحقهم شيء بحيث لا يبصرون شيئا، لا جرم ما رأوا العذاب. وثانيها: لما ذكر الشركاء، وهي الأصنام، وأنهم لا يجيبون الذين دعوهم، قال في حقهم: * (ورأوا العذاب) *، لو كانوا من الأحياء المهتدين، ولكنها ليست كذلك، ولا جرم ما رأت العذاب. والضمير في رأوا، وإن كان للعقلاء، فقد قال: ودعوهم وهم للعقلاء. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقد أثنى على هذا الذي اختاره، وليس بشيء، لأنه بناه على أن الضمير
(١٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 ... » »»