تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٢٣٠
وقيل: ينتفعون بإظهار الإيمان، فإذا وردت محنة أو شدة على المسلمين تحيروا، كما قام أولئك في الظلمات متحيرين. قال الزمخشري: وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون،، إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم، انتهزوا تلك الخفقة فرصة فحطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة، انتهى كلامه.
ومفعول شاء هنا محذوف للدلالة عليه التقدير: ولو شاء الله إذهاب سمعهم وأبصارهم. والكلام في الباء في بسمعهم كالكلام فيها في: * (ذهب الله بنورهم) *، وتوحيد السمع تقدم الكلام عليه عند الكلام على قوله: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) *. وقرأ ابن أبي عبلة: لأذهب بأسماعهم وأبصارهم، فالباء زائدة التقدير لأذهب أسماعهم، كما قال بعضهم: مسحت برأسه، يريد رأسه، وخشنت بصدره، يريد صدره، وليس من مواضع قياس زيادة الباء، وجمعه الإسماع مطابق لجمع الإبصار. ومعنى الجملة: أن ذهاب الله بسمعهم وأبصارهم كان يقع على تقدير مشيئة الله ذلك. وقيل: المعنى لإهلاكهم، لأن في هلاكهم ذهاب سمعهم وأبصارهم. وقيل: وعيد بإذهاب الأسماع والأبصار من أجسادهم حتى لا يتوصلوا بهما إلى مالهم، كما لم يتوصلوا بهما إلى ما عليهم. وقيل: لأظهر عليهم بنفاقهم فذهب منهم عز الإسلام. وقيل: لأذهب أسماعهم فلا يسمعون الصواعق فيحذرون، ولأذهب أبصارهم فلا يرون الضوء ليمشوا. وقيل، عن ابن عباس: لذهب بسمعهم وأبصارهم لما تركوا من الحق بعد معرفته. وقيل: لعجل لهم العقوبة في الدنيا، فذهب بسمعهم وأبصارهم، فلم ينتفعوا بها في الدنيا، لأنهم لم يستعملوها في الحق فينتفعوا بها في أخراهم. وقيل: لزاد في قصيف الرعد فأصمهم وفي ضوء البرق فأعماهم. وقيل: لأوقع بهم ما يتخوفونه من الزجر والوعيد. وقيل: لفضحهم عند المؤمنين وسلطهم عليهم. وقال الزمخشري: لذهب سمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق.
وظاهر الكلام أن هذا كله مما يتعلق بذوي صيب، فصرف ظاهره إلى أنه مما يتعلق بالمنافقين غير ظاهر، وإنما هذا مبالغة في تحير هؤلاء السفر وشدة ما أصابهم من الصيب الذي اشتمل على ظلمات ورعد وبرق، بحيث تكاد الصواعق تصمهم والبرق يعميهم. ثم ذكر أنه لو سبقت المشيئة بذهاب سمعهم وأبصارهم لذهبت، وكما اخترنا في قوله * (ذهب الله بنورهم) * إلى آخره أنه مبالغة في حال المستوقد، كذلك اخترنا هنا أن هذا مبالغة في حالة السفر، وشدة المبالغة في حال المشبه بهما يقتضي شدة المبالغة في حال المشبه، فهو وإن لم تكن هذه الجزئيات التي للمشبه به ثابتة للمشبه بنظائرها ثابتة له، ولا سيما إذا كان التمثيل من قبيل التمثيلات المفردة. وأما على ما اخترناه من أنه من التمثيلات المركبة، فتكون المبالغة في التشبيه بما آل إليه حال المشبه به، وقد تقدم الكلام على ذلك قبل، وخص السمع والأبصار في قوله: * (لذهب بسمعهم وأبصارهم) * لتقدم ذكرهما في قوله: * (أو كصيب) *، وفي قوله: * (يخطف أبصارهم) *. وقال بعضهم: تقدم ذكر الرعد والصواعق، ومدركهما السمع، والظلمات والبرق، ومدركهما: البصر، ثم قال: لو شاء أذهب ذلك من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم، أعقب تعالى ما علقه على المشيئة بالإخبار عنه تعالى بالقدرة لأن بهما تمام الأفعال، أعني القدرة والإرادة وأتى بصيغة المبالغة إذ لا أحق بها منه تعالى. وعلى كل شيء: متعلق بقوله: قدير، وفي لفظ قدير ما يشعر بتخصيص العموم، إذ القدرة لا تتعلق بالمستحيلات.
وقد تقدم لنا بعض كلام على تناسق
(٢٣٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 225 226 227 228 229 230 231 232 233 234 235 ... » »»