عمدة القاري - العيني - ج ٢١ - الصفحة ٢٥٩
عبارة عن جزئيات ذلك الكلي ومفصلات ذلك المجمل التي حكم الله بوقوعها واحدا بعد واحد في الإنزال، قالوا: وهو المراد بقوله تعالى: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) * (الحجر: 21). قوله: (لو غيرك قالها) جزاء: لو، محذوف أي: لو قال غيرك لأدبته، وذلك لاعتراضه على مسألة اجتهادية وافقه عليها أكثر الناس من أهل الحل والعقد، أو لم أتعجب منه، ولكني أتعجب منك مع علمك وفضلك كيف تقول هذا، أو كلمة: لو هنا للتمني. فلا تحتاج إلى جواب، والمعنى: أن غيرك ممن لا فهم له إذا قال ذلك يعذر. قوله: (نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله) وفي رواية هشام بن سعد: إن تقدمنا فبقدر الله وإن تأخرنا فبقدر الله، أطلق عليه فرارا لشبهه في الصورة، وإن كان ليس فرارا شرعا، والمراد أن هجوم المرء على ما يهلكه منهي عنه، ولو فعل لكان من قدر الله وتجنبه ما يؤذيه مشروع، وقد يقدر الله وقوعه فيما فر منه، فلو كان فعله أو تركه لكان من قدر الله، وحاصل الكلام أن شيئا ما لا يخرج عن القدر. قوله: (أرأيت) أي: أخبرني قوله: (له عدوتان) بضم العين المهملة وكسرها يعني طرفان والعدوة هو المكان المرتفع من الوادي وهو شاطئه. قوله: (خصبة) بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة وبالباء الموحدة، كذا ضبط في كتب اللغة، وفي (المطالع): خصبة بكسر الخاء وسكون الصاد والخصب بالكسر نقيض الجدب، وقال بعضهم: خصيبة على وزن عظيمة، وليس كذلك، والخصبة بفتح الخاء وسكون الصاد واحدة الخصاب، وهو النخل الكثير الحمل. قوله: (جدبة) بسكون الدال وكسرها يعني: الكل بتقدير الله سواء ندخل أو نرجع، فرجوعنا أيضا بقدر الله تعالى، فعمر رضي الله عنه استعمل الحذر وأثبت القدر معا فعمل بالدليلين اللذين كل متمسك به من التسليم للقضاء والاحتراز عن الإلقاء في التهلكة. قوله: (فجاء عبد الرحمن بن عوف) موصول عن ابن عباس بالسند المذكور. قوله: (وكان متغيبا) من باب التفعل معناه: لم يكن حاضرا في المشاورة. قوله: (علما) وفي رواية مسلم: لعلما، بلام التأكيد. قوله: (إذا سمعتم به) أي: بالطاعون. قوله: (فلا تقدموا) بفتح الدال. قوله: (فرارا) أي: لأجل الفرار، وفيه: دليل على جواز الخروج لغرض آخر لا بقصد الفرار منه. قوله: (فحمد الله عمر رضي الله عنه) يعني: على موافقة اجتهاده واجتهاد معظم أصحابه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن بطال: فإن قيل: لا يموت أحد إلا بأجله فلا يتقدم ولا يتأخر، فما وجه النهي عن الدخول والخروج؟ قلنا: لم ينه عن ذلك إلا حذرا من أن يظن أن هلاكه كان من أجل قدومه عليه وأن سلامته كانت من أجل خروجه، فنهى عن الدنو كما نهى عن الدنو من المجذوم مع علمه بأنه لا عدوى، وقيل: إذنه صلى الله عليه وسلم للذين استوخموا المدينة بالخروج حجة لمن أجاز الفرار. وأجيب بأنه: لم يكن ذلك فرارا من الوباء إذ هم كانوا مستوخمين خاصة دون سائر الناس، بل للاحتياج إلى الضرع ولاعتيادهم المعاش في الصحاري.
وفي هذا الحديث من الفوائد: خروج الإمام بنفسه لمشاهدة أحوال رعيته، وإزالة ظلم المظلوم وكشف الكرب، وتخويف أهل الفساد وإظهار شعائر الإسلام، وتلقي الأمراء والمشاورة معهم، والاجتماع بالعلماء، وتنزيل الناس منازلهم، واجتهاد في الحروب، وقبول خبر الواحد، وصحة القياس، واجتناب أسباب الهلاك.
5730 حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عبد الله بن عامر: أن عمر خرج إلى الشأم، فلما كان بسرغ بلغه أن الوباء قد وقع بالشام، فأخبره عبد الرحمان بن عوف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه. (انظر الحديث: 5729 وطرفه).
هذا طريق آخر لحديث عبد الرحمان بن عوف: وعبد الله بن عامر بن ربيعة الأصغر ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: سنة ست من الهجرة، وحفظ عنه وهو صغير، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربع سنين، ومات سنة خمس وثمانين، وأبو عامر ابن ربيعة من كبار الصحابة. والحديث أخرجه مسلم أيضا.
(٢٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 254 255 256 257 258 259 260 261 262 263 264 ... » »»