العمري والرقبى، العمرى، بضم العين المهملة وسكون الميم مقصورا، وحكي بضم العين والميم جميعا، وبفتح العين وسكون الميم. وقال ابن سيده: العمرى، مصدر كالرجعي، وأصل العمرى مأخوذ من العمر، والرقبى بوزن العمرى كلاهما على وزن فعلى، وأصل الرقبى من المراقبة. فإن قلت: ذكر في الترجمة العمرى والرقبى، ولم يذكر في الباب إلا حديثين في العمرى، ولم يذكر شيئا في الرقبى؟ قلت: قيل: إنهما متحدان في المعنى، فلذلك اقتصر على العمرى، على أن النسائي روى بإسناد صحيح عن ابن عباس موقوفا: العمرى والرقبى سواء؟ قلت: هذا الجواب غير مقنع، لأنا لا نسلم الاتحاد بينهما في المعنى فالعمرى من العمر والرقبى من المراقبة. وبينهما فرق في التعريف، على ما يجيء بيانه، ومعنى قول ابن عباس: هما سواء يعني: في الحكم، وهو الجواز، لا أنهما سواء في المعنى.
أعمرته الدار فهي عمراى جعلتها له أشار بهذا إلى تفسير العمرى، وهو أن يقول الرجل لغيره: أعمرته داري، أي: جعلتها له مدة عمري. وقال أبو عبيد: العمرى أن يقول الرجل للرجل: داري لك عمرك، أو يقول: داري هذه لك عمري، فإذا قال ذلك وسلمها إليه كانت للمعمر ولم ترجع إليه إن مات، وكذا إذا قال: أعمرتك هذه الدار، أو: جعلتها لك حياتك، أو: ما بقيت، أو: ما عشت، أو: ما حييت، وما يفيد هذا المعنى.
وقال شيخنا، رحمه الله: العمرى على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يقول: أعمرتك هذه الدار، فإذا مت فهي لعقبك أو ورثتك، فهذه صحيحة عند عامة العلماء. وذكر النووي أنه لا خلاف في صحتها، وإنما الخلاف: هل يملك الرقبة أو المنفعة فقط؟ وسنذكره إن شاء الله تعالى.
القسم الثاني: أن لا يذكر ورثته ولا عقبه، بل يقول: أعمرتك هذه الدار، أو: جعلتها لك، أو نحو هذا، ويطلق... ففيها أربعة أقوال. أصحها: الصحة كالمسألة الأولى، ويكون له ولورثته من بعده، وهو قول الشافعي في الجديد، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وسفيان الثوري وأبو عبيد وآخرون. القول الثاني: أنها لا تصح لأنه تمليك مؤقت، فأشبه ما لو وهبه أو باعه إلى وقت معين، وهو قول الشافعي في القديم. الثالث: أنها تصح ويكون للمعمر في حياته فقط، فإذا مات رجعت إلى المعمر أو إلى ورثته إن كان قد مات، وحكى هذا أيضا عن القديم. الرابع: أنها عارية يستردها المعمر متى شاء، فإذا مات عادت إلى ورثته.
القسم الثالث: أن لا يذكر العقب ولا الورثة، ولا يقتصر على الإطلاق، بل يقول: فإذا مت رجعت إلي، أو: إلى ورثتي إن كنت مت. فإن قلنا: بالبطلان في حالة الإطلاق فههنا أولى، وكذلك في الإطلاق بالصحة، وعودها بعد موت المعمر إلى المعمر، وإن قلنا: إنها تصح في حالة الإطلاق، ويتأبد الملك ففيه وجهان لأصحاب الشافعي أحدهما: عدم الصحة. قال الرافعي: وهو أسبق إلى الفهم، ورجحه القاضي ابن كج، وصاحب التمة، وبه جزم الماوردي. والثاني: يصح، ويلغو الشرط، وعزاه الرافعي للأكثرين.
ثم اختلف العلماء فيما ينتقل إلى المعمر: هل ينتقل إليه ملك الرقبة حتى يجوز له البيع والشراء والهبة وغير ذلك من التصرفات، أو إنما تنتقل إليه المنفعة فقط. كالوقف؟ فذهب الجمهور إلى أن ذلك تمليك للرقبة، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وذهب مالك إلى أنه إنما يملك المنفعة فقط، فعلى هذا فإنها ترجع إلى المعمر إذا مات المعمر عن غير وارث، أو انقرضت ورثته، ولا يرجع إلى بيت المال.
ثم ههنا مسائل متعلقة بهذا الباب.
الأولى: العمرى المذكورة في أحاديث هذا الباب وفي غيره، هل هي عامة في كل ما يصح تمليكه من العقار والحيوان والأثاث وغيرها، أو يختص ذلك بالعقار؟ الجواب: أن أكثر ورود الأحاديث في الدور والأراضي، فإما أن يكون خرج مخرج الغالب فلا يكون له مفهوم، ويعم الحكم كل ما يصح تمليكه. أو يقال: هذا الحكم ورد على خلاف الأصل، فيقتصر على مورد النص، فلا يتعدى به إلى غيره، قال شيخنا: لم أر من تعرض لذلك، إلا أن الرافعي مثل في أمثلة العمري بغير العقار، فقال: ولو قال: داري لك عمرك فإذا مت فهي لزيد، أو: عبدي لك عمرك فإذا مت فهو حر، تصح العمرى على قولنا الجديد، ولغى المذكور بعدها، فعلم من هذا جريان الحكم في العبيد وغيرهم.
الثانية: هل يستوي في العمرى تقييد ذلك بعمر الواهب كما لو قيده بعمر الموهوب؟ فعن أبي عبيد التسوية بينهما، لأنه فسر العمري بأن يقول للرجل: هذه الدار لك عمرك أو عمري، ولكن عند أصحاب الشافعي عدم الصحة في هذه الصورة. قال الرافعي: ولو قال: جعلت لك هذه الدار عمري أو حياتي الثالثة: إذا قيد الواهب العمرى بعمر أجبني، بأن قال: جعلت هذه الدار لك عمر زيد، فهل يصح؟ قال الرافعي: أجرى فيه الخلاف فيما إذا قال: عمري أو حياتي