عمدة القاري - العيني - ج ١٢ - الصفحة ٢٩
بعض الأعراب في وادي القرى فملكه بالقهر، ثم باعه من يهودي، واشترى منه يهودي آخر كما ذكرنا. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وكان حرا) إخبار منه بحريته في أول أمره قبل أن يخرج من دار الحرب، والعجب من الكرماني أنه قال: قوله: (وكان حرا) حال من: قال، يعني من: قال النبي صلى الله عليه وسلم، لا من: قوله: (كاتب) فكيف غفل عن هذا وسأل هذا السؤال الساقط؟ ونظير ذلك ما قاله صاحب (التوضيح): ولكن ما هو في البعد مثل ما قاله الكرماني، وهو أنه قال: فإن قلت: كيف جاز لليهودي ملك سلمان وهو مسلم، فلا يجوز للكافر ملك مسلم؟ قلت: أجاب عنه الطبري: بأن حكم هذه الشريعة أن من غلب من أهل الحرب على نفس غيره أو ماله، ولم يكن المغلوب على ذلك ممن دخل في الإسلام، فهو ملك للغالب، وكان سلمان حين غلب نفسه لم يكن مؤمنا، وإنما كان إيمانه تصديق النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا بعث مع إقامته على شريعة عيسى، عليه الصلاة والسلام، انتهى. ويؤيد ما ذكره الطبري أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وسمع به سلمان فذهب إليه ببعض تمر يختبره إن كان هو هذا النبي يقبل الهدية ويرد الصدقة، فلما تحققه دخل في ذلك الوقت في الإسلام، كما هوشرطه، فلذلك أمره، صلى الله عليه وسلم، بالكتابة ليخرج من ملك مولاه اليهودي.
وسبي عمار وصهيب وبلال مطابقته للترجمة من حيث إن أم عمار كانت من موالي بني مخزوم وكانوا يعاملون عمارا معاملة السبي، فهذا هو السبي، فهذا هو الوجه هنا لأن عمارا ما سبي، على ما نذكره. وأما صهيب وبلاد فباعهما المشركون على ما نذكره، فدخلا في قوله في الترجمة: شراء المملوك من الحربي. وقال صاحب (التوضيح): قوله: (وسبي عمار وصهيب وبلال) يعني: أنه كان في الجاهلية يسبي بعضهم بعضا ويملكون بذلك. انتهى. قلت: هذا الكلام الذي يقرب قط من المقصود أخذه من صاحب (التلويح)، وكون أهل الجاهلية سابين بعضهم بعضا لا يستلزم كون عمار ممن سبي ولا بلالد وإنما كانا يعذبان في الله تعالى حتى خلصهما الله تعالى ببركة إسلامهما، نعم سبي صهيب وبيع على يد المشركين، وروي عن ابن سعد أنه قال: أخبرنا أبو عامر العقدي وأبو حذيفة موسى بن مسعود، قالا: حدثنا زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن حمزة بن صهيب عن أبيه، قال: إني رجل من العرب من النمر بن قاسط، ولكني سبيت، سبتني الروم غلاما صغيرا بعد أن عقلت أهلي وقومي وعرفت نسبي، وعن ابن سعد: كان أباه من النمر بن قاسط، وكان عاملا لكسرى: فسبت الروم صهيبا لما غزت أهل فارس فابتاعه منهم عبد الله بن جدعان، وقيل: هرب من الروم إلى مكة فحالف ابن جدعان، فهذا يناسب الترجمة، لأنه دخل في قوله: شراء المملوك من الحربي. وأما بلال فإن ابن إسحاق ذكر في (المغازي):
حدثني هشام بن عروة عن أبيه قال: مر أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، بأمية بن خلف وهو يعذب بلالا، فقال: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ فقال: انقذه أنت بما ترى. فأعطاه أبو بكر غلاما أجلد منه، وأخذ بلالا، فأعتقه. وقيل غير ذلك، فحاصل الكلام أنه أيضا يناسب الترجمة، لأنه دخل في قوله: شراء المملوك من الحربي، أما الشراء فإن أبا بكر قايض مولاه، والمقايضة نوع من البيوع، وأما كونه اشترى من الحربي لأن مكة في ذلك الوقت كانت دار الحرب وأهلها من أهل الحرب، وأما عمار فإنه كان عربيا عنسيا، بالنون والسين المهملة، ما وقع عليه سباء، وإنما سكن أبوه ياسر، مكة وحالف بني مخزوم فزوجوه سمية، بضم السين: وهي من مواليهم، أسلم عمار بمكة قديما، وأبوه وأمه وكانوا ممن يعذب في الله، عز وجل، (فمر بهم النبي، صلى الله عليه وسلم، وهم يعذبون: فقال صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة). وقيل أبو جهل سمية، طعنها بحربة في قبلها فكانت أول شهيد في الإسلام. وقال مسدد: لم يكن أحد أبواه مسلمان غير عمار بن ياسر، وليس له وجه في دخوله في الترجمة إلا بتعسف، كما ذكرناه، وقال الكرماني: قوله: سبي، أي أسر: ولم يذكر شيئا غيره، لأنه لم يجد شيئا يذكره، على أن السبي هل يجيء بمعنى الأسر؟ فيه كلام.
وقال الله تعالى * (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون) * (النحل: 17).
(٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 ... » »»