عمدة القاري - العيني - ج ١١ - الصفحة ١٤٠
استحباب إحياء لياليه بالعبادات. قال: وأما قول أصحابنا: يكره قيام الليل، فمعناه الدوام عليه، ولم يقولوا بكراهة ليلة وليلتين والعشر، ولهذا، اتفقوا على استحباب إحياء ليلتي العيد وغير ذلك. قوله: (وأيقظ أهله) أي: للصلاة والعبادة، وروى الترمذي من حديث علي، رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان). وقال: هذا حديث حسن صحيح، وروى أيضا من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: (كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وروى محمد بن نصر من حديث زينب بنت سلمة: (لم يكن النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه.
33 ((كتاب الاعتكاف)) أي: هذا كتاب في بيان الاعتكاف وأحواله، وهذا بالبسملة، ولفظ: الكتاب، في رواية النسفي، ولم يقع هذا في رواية غيره إلا في رواية المستملي، وقعت البسملة بعد قوله: أبواب الاعتكاف، وهو في اللغة: اللبث مطلقا. ويقال: الاعتكاف والعكوف: الإقامة على الشيء، وبالمكان ولزومها في اللغة، ومنه يقال لمن لازم المسجد: عاكف ومعتكف، هكذا ذكره ابن الأثير. في (النهاية). وفي (المغني): هو لزوم الشيء وحبس النفس عليه برا كان أو غيره، ومنه قوله تعالي: * (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) * (الأنبياء: 25). وقوله تعالى: * (يعكفون على أصنام لهم) * (الأعراف: 831). وقوله تعالى: * (وانظر إلى إلاهك الذي ظلت عليه عاكفا) * (طه: 79). وفي الشرع: الاعتكاف الإقامة في المسجد واللبث فيه على وجه التقرب إلى الله تعالى على صفة يأتي ذكرها، قال الجوهري: عكفه أي: حبسه، يعكفه بضم عينها وكسرها عكفا، وعكف على الشيء يعكف عكوفا، أي: أقبل عليه مواظبا يستعمل لازما، فمصدره عكوف، ومتعديا فمصدره عكف، والاعتكاف مستحب. قاله في بعض كتب أصحابنا. وفي (المحيط): سنة مؤكدة. وفي (المبسوط): قربة مشروعة. وفي (منية المفتي): سنة. وقيل: قربة. وفي (التوضيح): قام الإجماع على أن الاعتكاف لا يجب إلا بالنذر.
فإن قلت: كان الزهري يقول: عجبا من الناس كيف تركوا الاعتكاف، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يفعل الشيء ويتركه، وما ترك الاعتكاف حتى قبض قلت: قال أصحابنا: إن أكثر الصحابة لم يعتكفوا. وقال مالك: لم يبلغني أن أبا بكر وعمر وعثمان وابن المسيب، ولا أحدا من سلف هذه الأئمة اعتكف، إلا أبا بكر بن عبد الرحمن، وأراهم تركوه لشدته، لأن ليله ونهاره سواء، وفي (المجموعة) للمالكية: تركوه لأنه مكروه في حقهم، إذ هو كالوصال المنهي، وأقل الاعتكاف نفلا يوم عند أبي حنيفة، وبه قال مالك، وعند أبي يوسف: أكثر اليوم، وعند محمد: ساعة، وبه قال الشافعي وأحمد في رواية. وحكى أبو بكر الرازي عن مالك: أن مدة الاعتكاف عشرة أيام. فيلزم بالشروع ذلك، في (الجلاب): أقله يوم، والاختيار عشرة أيام. وفي (الإكمال): استحب مالك أن يكون أكثره عشرة أيام، وهذا يرد نقل الرازي عنه. وقال أبو البركات بن تيمية الحنبلي: وقالت الأئمة الأربعة وأتباعهم: الصوم من شرط الاعتكاف الواجب، وهو مذهب علي وابن عمر وابن عباس وعائشة والشعبي والنخعي ومجاهد والقاسم بن محمد ونافع وابن المسيب والأوزاعي والزهري والثوري والحسن بن حي. وقال عبد الله بن مسعود وطاووس وعمر بن عبد العزيز وأبو ثور وداود وإسحاق وأحمد، في رواية: إن الصوم ليس بشرط في الواجب والنفل، وبه قال الشافعي وأحمد، وما ذكره أبو البركات قول قديم للشافعي، واحتجوا بما روي عن ابن عباس أنه قال: ليس على المعتكف صوم إلا أن يجعله على نفسه، ورواه الدارقطني، قال: ورفعه أبو بكر محمد بن إسحاق السوسي وغيره. لا يرفعه، وهو شيخ الدارقطني، لكنه خالف الجماعة في رفعه مع أن النافي لا يحتاج إلى دليل، واحتجت الطائفة الأولى بحديث عائشة الذي رواه أبو داود، وفيه: لا اعتكاف إلا بصوم، والمراد به الاعتكاف في الواجب. وعند الحنفية: الصوم شرط لصحة الواجب منه رواية واحدة، ولصحة التطوع فيما روى الحسن عن أبي حنيفة، فلذلك قال: أقله يوم، والمراد به الاعتكاف مطلقا عند أصحابنا، لأن من شرط الاعتكاف الصوم مطلقا. فإن قلت: روى البخاري على ما يأتي: (أن عمر
(١٤٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 135 136 137 138 139 140 141 142 143 144 145 ... » »»