عمدة القاري - العيني - ج ١١ - الصفحة ٣٢
منها عضوا من النار). وأما الصيام فمناسبته ظاهرة لأنه كالمقاصة بجنس الجناية، وأما كونه شهرين فلأنه لما أمر بمصابرة النفس في حفظ كل يوم من شهر رمضان على الولاء، فلما أفسد منه يوما كان كمن أفسد الشهر كله من حيث إنه عبادة واحدة بالنوع، فكلف بشهرين مضاعفة على سبيل المقابلة لنقيض قصده. وأما الإطعام فمناسبته ظاهرة، لأن مقابلة كل يوم بإطعام مسكين، ثم إن هذه الخصال جامعة لاشتمالها على حق الله تعالى وهو الصوم، وحق الأحرار بالإطعام وحق الأرقاء بالإعتاق وحق الجاني بثواب الامتثال. قوله: (فمكث) بالميم وفتح الكاف وضمها وبالثاء المثلثة. وفي رواية أبي نعيم في (المستخرج) من وجهين عن أبي اليمان: أحدهما: (مكث) مثل ما هو هنا. والآخر: (فسكت)، من السكوت وفي رواية أبي عيينة (فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إجلس فجلس). قوله: (فبينا نحن على ذلك)، وفي رواية ابن عيينة: (فبينما هو جالس كذلك)، قيل: يحتمل أن يكون سبب أمره بالجلوس لانتظار ما يوحى إليه في حقه، ويحتمل أنه كان عرف أنه سيؤتى بشيء يعينه به. قوله: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم)، كذا هو على بناء المجهول عند الأكثرين، وفي رواية ابن عيينة: (إذ أتي) وهو جواب قوله: بينا، وقد مر في قوله: (بينما نحن جلوس) أن بعضهم قال: إن بينا لا يتلقى بإذ ولا بإذا، وههنا في رواية ابن عيينة جاء بإذ، وهو يرد ما قاله، فكأنه ذهل عن هذا، والآتي من هو لم يدر، وقال بعضهم: والآتي المذكور لم يسم. قلت: في أين ذكر الآتي حتى قال: لم يسم؟ لكن وقع في الكفارات على ما سيأتي في رواية معمر: (فجاء رجل من الأنصار)، وهو أيضا غير معلوم. فإن قلت: عند الدارقطني من طريق داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب مرسلا، (فأتى رجل من ثقيف). قلت: رواية الصحيح أصح، ويمكن أن يحمل على أنه كان حليفا للأنصار، فأطلق عليه الأنصاري، وقال بعضهم: أو إطلاق الأنصاري، بالمعنى الأعم. قلت: لا وجه لذلك لأنه يلزم منه أن يطلق على كل من كان من أي قبيلة كان أنصاريا بهذا المعنى، ولم يقل به أحد. قوله: (بعرق)، قد مر تفسيره عن قريب مستوفى. قوله: (والمكتل) تفسير العرق وقد مر تفسير المكتل أيضا وفي رواية ابن عيينة عند الإسماعيلي وابن خزيمة (المكتل الضخم) فإن قلت تفسير العرق بالمكتل ممن؟ قلت: الظاهر أنه من الصحابي، ويحتمل أن يكون من الرواة، قيل: في رواية ابن عيينة ما يشعر بأنه الزهري، وفي رواية منصور في الباب الذي يلي هذا: وهو باب المجامع في رمضان فأتي بعرق فيه تمر، وهو الزبيل، وفي رواية ابن أبي حفصة: (فأتي بزبيل)، وقد مر تفسير الزبيل أيضا مستوفى. قوله: (أين السائل؟) قال الكرماني: فإن قلت: لم يكن لذلك الرجل سؤال، بل كان له مجرد إخبار بأنه هلك، فما وجه إطلاق لفظ السائل عليه؟ قلت: كلامه متضمن للسؤال أي: هلكت، فما مقتضاه وما يترتب عليه؟ فإن قلت: لم يبين في هذا الحديث مقدار ما في المكتل من التمر؟ قلت: وقع في رواية ابن أبي حفصة: (فيه خمسة عشر صاعا)، وفي رواية مؤمل عن سفيان: (فيه خمسة عشر أو نحو ذلك)، وفي رواية مهران بن أبي عمر عن الثوري عند ابن خزيمة: (فيه خمسة عشر أو عشرون) وكذا هو عند مالك، وفي مرسل سعيد بن المسيب عند الدارقطني الجزم بعشرين صاعا، ووقع في حديث عائشة عند ابن خزيمة: (فأتي بعرق فيه عشرون صاعا)، وقال بعضهم: من قال: عشرون، أراد أصل ما كان فيه، ومن قال: خمسة عشر، أراد قدر ما تقع به الكفارة، ويبين ذلك حديث علي عند الدارقطني: (يطعم ستين مسكينا لكل مسكين مد) وفيه: (فأتي بخمسة عشر صاعا، فقال: أطعمه ستين مسكينا). وكذا في رواية حجاج عن الزهري عند الدارقطني في حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال: وفيه رد على الكوفيين في قولهم: إن واجبه من القمح ثلاثون صاعا، ومن غيره ستون صاعا، وعلى أشهب في قوله: لو غداهم أو عشاهم كفى لصدق الإطعام، ولقول الحسن: يطعم أربعين مسكينا عشرين صاعا، ولقول عطاء: إن أفطر بالأكل أطعم عشرين صاعا، أو بالجماع أطعم خمسة عشر، وفيه رد على الجوهري حيث قال في (الصحاح): المكتل تشبه الزبيل، يسع خمسة عشر صاعا لأنه لا حصر في ذلك. انتهى. قلت: ليت شعري كيف فيه رد على الكوفيين وهم قد احتجوا بما رواه مسلم: (فجاءه عرقان فيهما طعام)، وقد ذكرنا فيما مضى أن ما في العرقين يكون ثلاثين صاعا، فيعطى لكل مسكين نصف صاع، بل الرد على أئمتهم حيث احتجوا فيما ذهبوا إليه بالروايات المضطربة، وفي بعضها الشك، فالعجب
(٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 ... » »»