ويؤيده قراءة الناس: وهو آدم، عليه السلام من قوله تعالى: * (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي) * (طه: 511). وقيل: * (من حيث أفاض الناس) * (البقرة: 991). أي: سائر الناس غير الحمسن. وقال ابن التين: وهو الصحيح، وقال الزمخشري فإن قلت: فكيف موقع: ثم، يعني في قوله: * (ثم أفيضوا) * (البقرة: 991). لأن ثم تقتضي المهلة؟ قال تعالى: * (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * (البقرة: 991). ثم قال: * (ثم أفيضوا) * (البقرة: 991). والإفاضة من عرفات قبل المجيء إلى المشعر الحرام. وأجاب الزمخشري: بأن موقع: ثم، نحو موقعها في قولك: أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم، تأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره، وبعدما بينهما، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات. قال: * (ثم أفيضوا) * (البقرة: 991). لتفاوت ما بين الإفاضتين وأن إحداهما صواب والثانية خطأ، وأجاب غيره بأن: ثم، بمعنى الواو، واختاره الطحاوي. وقيل: لقصد التأكيد لا لمحض الترتيب، والمعنى: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، ثم اجعلوا الإفاضة التي تفيضونها من حيث أفاض الناس، لا من حيث كنتم تفيضون. وقال الخطابي: تضمن قوله تعالى: * (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) * (البقرة: 991). الأمر بالوقوف بعرفة، لأن الإفاضة إنما تكون عن اجتماع قبله. قوله: (فدفعوا إلى عرفات) بلفظ المجهول أي: أمروا بالذهاب إلى عرفات حيث قيل لهم: ثم أفيضوا، وفي رواية الكشميهني: (فرفعوا) بالراء، وفي رواية مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام رجعوا إلى عرفات، والمعنى: أنهم أمروا أن يتوجهوا إلى عرفات ليقفوا بها ثم يفيضوا منها.
ذكر ما يستفاد منه فيه: الوقوف بعرفة وهو من أعظم أركان الحج، ثبت ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله. أما فعله: فروى الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا زكرياء بن إسحاق أخبرنا إبراهيم بن ميسرة أنه سمع يعقوب بن عاصم بن عروة يقول: سمعت الشريد يقول: أشهد لوقفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات، قال: فما مست قدماه اورض حتى أتى جمعا، والشريد بفتح الشين المعجمة وكسر الراء: ابن سويد الثقفي، وقال الطبري: حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن ربيعة عن أبيه، رجل من قريش، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقف بعرفة موضعه الذي رأيته يقف فيه في الجاهلية. وأما قوله: فرواه الترمذي من حديث علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، قال: (وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال: هذه عرفة وهو الموقف، وعرفة كلها موقف...) الحديث.
وروى ابن حبان في (صحيحه) من حديث جبير بن مطعم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل عرفات موقف، فارفعوا عن عرنة، وكل مزدلفة موقف فارفعوا عن محسر، وكل أيام منى منحر وفي كل أيام التشريق ذبح). وفي هذه الأحاديث تعيين عرفة للوقوف، وأنه لا يجزي الوقوف بغيرها، وهو قول أكثر أهل العلم. وحكى ابن المنذر عن مالك أنه يصح الوقوف بعرنة، بضم العين والنون، والحديث المذكور حجة عليه، وحد عرفة ما رواه الأزرقي في (تاريخ مكة) بإسناده إلى ابن عباس، قال: حد عرفة من قبل المشرق على بطن عرنة إلى جبال عرنة إلى وصيق إلى ملتقى وصيق إلى وادي عرنة. ووصيق، بفتح الواو وكسر الصاد المهملة بعدها ياء آخر الحروف وفي آخره قاف، وقال الشافعي في (الأوسط) من مناسكه: وعرفة ما جاوز بطن عرنة وليس الوادي ولا المسجد منها إلى الجبال المقابلة مما يلي حوائط ابن عامر وطريق الحضن، وما جاوز ذلك فليس بعرفة، و: الحضن، بفتح الحاء المهملة والضاد المعجمة المفتوحتين. وابن عامر هو عبد الله بن عامر بن كريز، وكان له حائط نخل وكان فيها عين. قال المحب الطبري: وهو الآن خراب. وقال ابن بطال: اختلفوا إذا دفع من عرفة قبل غروب الشمس ولم يقف بها ليلا، فذهب مالك إلى أن الاعتماد في الوقوف بعرفة على الليل من ليلة النحر، والنهار من يوم عرفة تبع، فإن وقف جزأ من الليل أي جزء كان قبل طلوع الفجر من يوم النحر أجزأه، وقال أبو حنيفة والثوري والشافعي: الاعتماد على النهار من يوم عرفة من وقت الزوال والليل كله تبع، فإن وقف جزأ من النهار أجزأه، وإن وقف جزأ من الليل أجزأه، إلا أنهم يقولون: إن وقف جزأ من النهار بعد الزوال دون الليل كان عليه دم، وإن وقف جزأ من الليل دون النهار لم يجب عليه دم، وذهب أحمد بن حنبل إلى أن الوقوف من حين طلوع الفجر من يوم عرفة إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، فسوى بين أجزاء الليل وأجزاء النهار. وقال ابن قدامة: وعلى من دفع قبل الغروب دم في قول أكثر أهل العلم، منهم عطاء والثوري والشافعي وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وقال ابن جريج: عليه بدنة، وقال الحسن بن أبي الحسن: عليه هدي من الإبل، فإن دفع قبل الغروب ثم عاد نهارا فوقف حتى غربت الشمس فلا دم عليه،