عمدة القاري - العيني - ج ٤ - الصفحة ٥٤
وقول الله تعالى: * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) * (الأعراف: 13).
هذا عطف على قول: وجوب الصلاة، والتقدير: وفي بيان معنى قول ا تعالى، أراد بالزينة: ما يوراي العورة، وبالمسجد: الصلاة، ففي الأول إطلاق اسم الحال على المحل. وفي الثاني إطلاق اسم المحل على الحال لوجود الاتصال الذاتي بين الحال والمحل، وهذا لأن أخذ الزينة نفسها وهي عرض محال، فأريد محلها وهو الثوب مجازا، وكانوا يطوفون عراة ويقولون: لا نعبد ا في ثياب أذنبنا فيها، فنزلت. لا يقال: نزول الآية في الطواف، فكيف يثبت الحكم في الصلاة؟ لأنا نقول: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وهذا اللفظ عام لأنه قال: عند كل مسجد، ولم يقل: عند المسجد الحرام. فيعمل بعمومه، ويقال: * (خذوا زينتكم) * (الأعراف: 13) من قبيل إطلاق المسبب على السبب، لأن الثوب سبب الزينة، ومحل الزينة الشخص، وقيل: الزينة ما يتزين به من ثوب وغيره، كما في قوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن) * (النور: 13) والستر لا يجب لعين المسجد بدليل جواز الطواف عريانا، فعلم من هذا أن ستره للصلاة لا لأجل الناس حتى لو صلى وحده ولم يستر عورته لم تجز صلاته، وإن لم يكن عنده أحد. وقال بعضهم، بعد قوله، وقول ا عز وجل: * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) * (الأعراف: 13) يشير بذلك إلى تفسير طاوس في قوله تعالى: * (خذوا زينتكم) * (الأعراف: 13) قال: الثياب. قلت: هذا تخمين وحسبان، وليس عليه برهان، وقد اتفق العلماء على أن المراد منه ستر العورة، وعن مجاهد: وار عورتك ولو بعباءة، وفي مسلم من حديث أبي سعيد مرفوعا: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة). وعن المسور، قال له النبي: (ارجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عراة). وفي (صحيح ابن خزيمة)، عن عائشة يرفعه: (لا يقبل ا صلاة امرأة قد حاضت إلا بخمار). وقال ابن بطال: أجمع أهل التأويل على أن نزولها في الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة، وقال ابن رشد: من حمله على الندب قال: المراد بذلك الزينة الظاهرة من الرداء وغيره من الملابس التي هي زينة، مستدلا بما في الحديث أنه كان رجال يصلون مع النبي عاقدي أزرهم على أعناقهم كيهئة الصبيان، ومن حمله على الوجوب استدل بحديث مسلم عن ابن عباس: (كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة فتقول: من يعيرني تطوافا؟ وتقول:
* اليوم يبدو بعضه أو كله) * فنزلت * (خذوا زينتكم) * (الأعراف: 13).
ويذكر عن سلمة بن الأكوع أن النبي قال: (يزره ولو بشوكة).
هذا أخرجه أبو داود: حدثنا القعنبي حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن موسى بن إبراهيم عن سلمة بن الأكوع قال: (قلت: يا رسول ا إني رجل أصيد أفأصلي في القميص الواحد؟ قال: نعم، وإزاره ولو بشوكة) وأخرجه النسائي أيضا قوله: (أفأصلي)؟ الهمزة فيه للاستفهام، فلذلك قال في جوابه: نعم، أي: صل. قوله: (ولو بشوكة) الباء فيه تتعلق بمحذوف تقديره: ولو أن تزره بشوكة، وهذه اللفظة فيما ذكره البخاري بالإدغام على صيغة المضارع، وفي رواية أبي داود بالفك على صيغة الأمر، من زريزر، من باب نصر ينصر، ويجوز في الأمر الحركات الثلاث في الراء، ويجوز الفك أيضا فهي أربعة أحوال، كما في مد الأمر، ويجوز في مضارعه الضم والفتح والفك. وقال ابن سيده: الزر الذي يوضع في القميص، والجمع أزرار وزرور، وأزر القميص جعل له زرا وأزره شد عليه أزراره. وقال ابن الأعرابي: زر القميص إذا كان محلولا فشده، وزر الرجل شد زره، وأورد البخاري هذا للدلالة على وجوب ستر العورة، وللإشارة إلى أن المراد بأخذ الزينة في الآية السابقة لبس الثياب لا تزيينها وتحسينها، إنما أمر بالزر ليأمن من الوقوع عن بدنه، ومن وقوع نظره على عورته من زيقه حالة الركوع، ومن هذا أخذ محمد بن شجاع من أصحابنا أن من نظر إلى عورته من زيقه تفسد صلاته، كما ذكرناه عن قريب.
وفي إسناده نظر.
أي: وفي إسناد الحديث المذكور نظر، وجه النظر من موسى بن إبراهيم، وزعم ابن القطان أنه موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وهو منكر الحديث، فلعل البخاري أراده. فلذلك قال: في إسناده نظر، وذكره معلقا بصيغة التمريض، ولكن أخرجه ابن خزيمة في (صحيحه) عن نصر بن علي عن عبد العزيز عن موسى بن إبراهيم، قال: سمعت سلمة، وفي رواية: (وليس على إلا قميص واحد، أوجبه واحدة، فأزره؟ قال: نعم ولو بشوكة). ورواه ابن حبان أيضا في (صحيحه): عن إسحاق بن إبراهيم حدثنا ابن أبي عمر حدثنا عبد العزيز بن محمد عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن ربيعة عن سلمة بن الأكوع،
(٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 ... » »»