عمدة القاري - العيني - ج ٤ - الصفحة ٢٠٩
الثانية بأنه تأكيد لها. قوله: (وعمار) أي: يحمل عمار بن ياسر لبنتين لبنتين. زاد معمر في روايته: (لبنة عنه ولبنة عن رسول ا). وفيه زيادة أيضا لم يذكرها البخاري، ووقعت عند الإسماعيلي وأبي نعيم في (المستخرج) من طريق خالد الواسطي: عن خالد الحذاء، وهي: (فقال النبي: يا عمار ألا تحمل كما يحمل أصحابك؟ قال: إني أريد من ا الأجر).
قوله: (فرآه النبي)، الضمير المنصوب فيه يرجع إلى عمار. قوله: (فنفض التراب عنه)، ويروى: (فينفض التراب عنه)، وفيه التعبير بصيغة المضارع في موضع الماضي لاستحضار ذلك في نفس السامع كأنه شاهده، وفي رواية الكشميهني: (فجعل ينفض التراب عنه). وفي لفظ للبخاري في باب الجهاد: (عن رأسه)، وكذا في رواية مسلم. قوله: (ويح عمار)، كلمة: ويح، كلمة رحمة كما أن كلمة: ويل، كلمة عذاب. تقول: ويح لزيد وويل له، برفعهما على الابتداء، ولك أن تقول: ويحا لزيد وويلا له، فتنصبهما بإضمار فعل، وأن تقول: ويحك وويح زيد، وويلك وويل زيد، بالإضافة فتنصب أيضا بإضمار الفعل، وههنا بنصب الحاء لا غير. قوله: (الفئة) هي الجماعة: و: (الباغية) هم الذين خالفوا الإمام وخرجوا عن طاعته بتأويل باطل ظنا بمتبوع مطاع. قوله: (يدعوهم) أي: يدعو عمار الفئة الباغية وهم الذين قتلوه في وقعة صفين، وأعيد الضمير إليهم، وهم غير مذكورين صريحا. قوله: (إلى الجنة) أي: إلى سببها، وهي الطاعة. كما أن سبب النار هو المعصية. قوله: (ويدعونه إلى النار)، أي: يدعو هؤلاء الفئة الباغية عمارا إلى النار. فإن قيل: كان قتل عمار بصفين، وكان مع علي رضي ا تعالى عنه، وكان الذين قتلوه مع معاوية، وكان معه جماعة من الصحابة فكيف يجوز أن يدعوه إلى النار؟ فأجاب ابن بطال عن ذلك فقال: إنما يصح هذا في الخوارج الذين بعث إليهم علي عمارا يدعوهم إلى الجماعة، وليس يصح في أحد من الصحابة لأنه لا يجوز أن يتأول عليهم إلا أفضل التأويل. قلت: تبع ابن بطال في ذلك المهلب، وتابعه على ذلك جماعة في هذا الجواب، ولكن لا يصح هذا، لأن الخوارج إنما خرجوا على علي رضي ا تعالى عنه، بعد قتل عمار بلا خلاف بين أهل العلم بذلك، لأن ابتداء أمرهم كان عقيب التحكيم بين علي ومعاوية، ولم يكن التحكيم إلا بعد انتهاء القتال بصفين، وكان قتل عمار قبل ذلك قطعا، وأجاب بعضهم بأن المراد بالذين يدعونه إلى النار كفار قريش، وهذا أيضا لا يصح، لأنه وقع في رواية ابن السكن وكريمة وغيرهما زيادة توضيح بأن الضمير يعود على قتلة عمار، وهم أهل الشام. وقال الحميدي: لعل هذه الزيادة لم تقع للبخاري، أو وقعت فحذفها عمدا ولم يذكرها في الجمع. قال: وقد أخرجها الإسماعيلي والبرقاني في هذا الحديث، والجواب الصحيح في هذا أنهم كانوا مجتهدين ظانين أنهم يدعونه إلى الجنة، وإن كان في نفس الأمر خلاف ذلك، فلا لوم عليهم في اتباع ظنونهم، فإن قلت: المجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر، فكيف الأمر ههنا. قلت: الذي قلنا جواب إقناعي فلا يليق أن يذكر في حق الصحابة خلاف ذلك، لأن ا تعالى أثنى عليهم وشهد لهم بالفضل، بقوله: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * (آل عمران: 011)، قال المفسرون: هم أصحاب محمد.
ذكر ما يستنبط منه من الفوائد فيه: أن التعاون في بنيان المسجد من أفضل الأعمال لأنه مما يجري للإنسان أجره بعد موته، ومثل ذلك حفر الآبار وكري الأنهار وتحبيس الأموال التييعم العامة نفعها. وفيه: الحث على أخذ العلم من كل أحد وإن كان الآخذ أفضل من المأخوذ منه، ألا ترى أن ابن عباس مع سعة علمه أمر ابنه عليا بالأخذ عن أبي سعيد الخدري؟ قيل: يحتمل أن يكون إرسال ابن عباس إليه لطلب علو الإسناد، لأن أبا سعيد أقدم صحبة وأكثر سماعا من النبي. قلت: مع هذا لا ينافي ذلك ما ذكرناه. وفيه: أن العالم له أن يتهيأ للحديث ويجلس له جلسة. وفيه: ترك التحديث في حالة المهنة إعظاما للحديث وتوقيرا لصحابه. وهكذا كان السلف. وفيه: أن للإنسان أن يأخذ من أفعال البر ما يشق عليه إن شاء كما أخذ عمار لبنتين. وفيه: إكرام العامل في سبيل ا والإحسان إليه بالفعل والقول. وفيه: علامة النبوة لأنه أخبر بما يكون فكان كما قال. وفيه: إصلاح الشخص: بما يتعلق بأمر ديناه كإصلاح بستانه وكرمه بنفسه وكان السلف على ذلك لأن فيه إظهار التواضع ودفع الكبر وهما من أفضل الأعمال الصالحة. وفيه: فضيلة ظاهرة لعلي وعمار، ورد على النواصب الزاعمين أن عليا لم يكن مصيبا في حروبه. وفيه: استحباب الاستعاذة من الفتن لأنه لا يدري أحد في الفتنة أمأجور هو أم مأزور؟ إلا بغلبة الظن، ولو كان مأورا لما استعاذ عمار من الأجر.
(٢٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 204 205 206 207 208 209 210 211 212 213 214 ... » »»