عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ٢٩
غيره فأسلم فكان ذلك مهرها قال ثابت فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرا من أم سليم الإسلام فدخل بها الحديث وأخرجه ابن حبان في صحيحه من هذا الوجه فظاهر هذا أن إسلامه كان ليتزوج بها فكيف الجمع بينه وبين حديث الهجرة المذكور مع كون الإسلام أشرف الأعمال وأجيب عنه من وجوه * الأول أنه ليس في الحديث أنه أسلم ليتزوجها حتى يكون معارضا لحديث الهجرة وإنما امتنعت من تزويجه حتى هداه الله للإسلام رغبة في الإسلام لا ليتزوجها وكان أبو طلحة من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم فلا يظن به أنه إنما أسلم ليتزوج أم سليم * الثاني أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحها أنه لا يصح منه الإسلام رغبة فيها فمتى كان الداعي إلى الإسلام الرغبة في الدين لم يضر معه كونه يعلم أنه يحل له بذلك نكاح المسلمات * الثالث أنه لا يصح هذا عن أبي طلحة فالحديث وإن كان صحيح الإسناد ولكنه معلل بكون المعروف أنه لم يكن حينئذ نزل تحريم المسلمات على الكفار وإنما نزل بين الحديبية وبين الفتح حين نزل قوله تعالى * (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) * كما ثبت في صحيح البخاري وقول أم سليم في هذا الحديث ولا يحل لي أن أتزوجك شاذ مخالف للحديث الصحيح وما أجمع عليه أهل السير فافهم وقد علمت سبب الحديث ومورده وهو خاص ولكن العبرة بعموم اللفظ فيتناول سائر أقسام الهجرة * فعدها بعضهم خمسة الأولى إلى أرض الحبشة الثانية من مكة إلى المدينة. الثالثة هجرة القبائل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الرابعة هجرة من أسلم من أهل مكة. الخامسة هجرة ما نهى الله عنه واستدرك عليه بثلاثة أخرى الأولى الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة فإن الصحابة هاجروا إليها مرتين الثانية هجرة من كان مقيما ببلاد الكفر ولا يقدر على إظهار الدين فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى دار الإسلام كما صرح به بعض العلماء الثالثة الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن كما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمر وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها الحديث ورواه أحمد في مسنده فجعله من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقال صاحب النهاية يريد به الشام لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما خرج من العراق مضى إلى الشام وأقام به (فإن قيل) قد تعارضت الأحاديث في هذا الباب فروى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قوله لا هجرة بعد الفتح وفي رواية له لا هجرة بعد الفتح اليوم أو بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى البخاري أيضا أن عبيد بن عمرو سأل عائشة رضي الله عنها عن الهجرة فقالت لا هجرة اليوم كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام والمؤمن يعبد ربه حيث شاء ولكن جهاد ونية وروى البخاري ومسلم أيضا عن مجاشع بن مسعود قال انطلقت بأبي معبد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة قال انقضت الهجرة لأهلها فبايعه على الإسلام والجهاد وفي رواية أنه جاء بأخيه مجالد وروى أحمد من حديث أبي سعيد الخدري ورافع بن خديج وزيد بن ثابت رضي الله عنهم لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية فهذه الأحاديث دالة على انقطاع الهجرة وروى أبو داود والنسائي من حديث معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها وروى أحمد من حديث ابن السعدي مرفوعا لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل وروى أحمد أيضا من حديث جنادة بن أبي أمية مرفوعا أن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد * قلت وفق الخطابي بين هذه الأحاديث بأن الهجرة كانت في أول الإسلام فرضا ثم صارت بعد فتح مكة مندوبا إليها غير مفروضة قال فالمنقطعة منها هي الفرض والباقية منها هي الندب على أن حديث معاوية فيه مقال وقال ابن الأثير الهجرة هجرتان إحداهما التي وعد الله عليها بالجنة كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويدع أهله وماله لا يرجع في شيء منه فلما فتحت مكة انقطعت هذه الهجرة * والثانية من هاجر من الأعراب وغزا مع المسلمين ولم يفعل كما فعل أصحاب الهجرة وهو المراد بقوله لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة * قلت وفي الحديث الآخر ما يدل على أن المراد بالهجرة الباقية هي هجر السيئات وهو ما رواه أحمد في مسنده من حديث معاوية وعبد
(٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 ... » »»