ومذ أدرك الغرب دور الثقافة جعل طلائع غزوه الحديث للآخر - والمسلمين بوجه خاص أيضا - في صنفين من الكتائب: كتائب التبشير، وكتائب الاستشراق..
فإذا كانت كتائب التبشير ينبغي أن تقصد الوسط الشعبي العام، مما سوف يفرض عليها اعتماد الآليات المناسبة في الخطاب الشعبي وأدواته، من وسائل الدعايات البسيطة والمغرية، والخدمات الإنسانية والاجتماعية، فإن كتائب الاستشراق سوف تتفرغ بالكامل لإنتاج الخطاب المناسب للنخب المتعلمة والشرائح الأكثر وعيا...
إنه مشروع غزو محكم سوف يستوعب المجتمع بأسره..
ولقد حقق الصنفان نجاحات كبيرة وخطيرة، وما زالا يخوضان المعركة بجد دؤوب.. ويخطئ من يظن أن إرساليات التبشير قد خاب سعيها، فهي إن كانت لم تفلح في قلب المسلمين نصارى.. فقد أفلحت في استلاب الحس الإسلامي على مدى طويل! لقد أفلحت في عام واحد - هو العام الأول من هذا القرن الميلادي - أن تخرج 86 % من حملة الشهادات الجامعية في سوريا ولبنان! لتخلف هذه النسبة العالية من مربي الأجيال وفق مناهجها وأهدافها!
أما في العقود الأخيرة فقد أفلحت حتى في قلب المسلمين نصارى لا سيما في جمهوريات جنوب شرقي آسيا وإفريقيا وألبانيا، وأخيرا أصبح شمال العراق مرتعا خصبا لخيولها..
أما الاستشراق فلا يشك أحد في أنه قد أصبح (إماما) لدعاة (التنوير) و (الحداثة) منذ مطلع هذا القرن.. إن عملية الغزو الثقافي هذه لم تكتسب شموليتها من استيعابها لشرائح مجتمعاتنا وحسب، بل من استيعابها أيضا