دليل النص بخبر الغدير - الكراجكي - الصفحة ١٧
الدولة العباسة وتبعثر أوصالها (1) كنتيجة منطقية لحالات الضعف المتوالية التي أوجدها أسلوب الحكم الخاطئ وفساد سدنته ورموزه، واستشراء ذلك في عموم أجهزته بشكل معلن غير خفي، كل ذلك أدى إلى انحسار ظل هذه الدولة المقيت، وتراخي حلقاتها التي كانت أشد إحكاما على الشيعة وأئمتهم وعلمائهم، فكان ذلك إيذانا بفتح أبواب الاحتدام الفكري على مصراعيه قبالة دعاة المذاهب المختلفة وروادها والتي كانت تموج بها الساحة الإسلامية آنذاك.
والتأمل العابر لمجمل التراث الفكري والعقائدي الذي تمخضت عنه تلك الحقبة الخصبة والمعطاء يظهر بجلاء أبعاد تلك المناظرات وأشكالها المختلفة وما تتسم به، فالجدال في مسائل الجبر والاختيار، والقدم والحدوث، وصفات الله تعالى، والإمامة، والعصمة، والنص والاختيار، وغير ذلك من المباحث التي لا يعسر على أحد إدراكها ومعرفتها، يعد السمة الغالبة للمناهج الفكرية الطاغية على حلقات البحث ومطاوي الكتب، والتي تتطلب إحاطة واسعة بالكثير من تلك العلوم من قبل المناظر والباحث، وهذا ما وفق إليه علماء الشيعة ومفكروها بشكل واضح جلي.
حقا لقد كانت الساحة الفكرية وحتى عصر قريب من هذا العصر - وإلى حد ما - حكرا على فريقين متعارضين تناطحا طويلا فيما بينهما، واقتسما - بفعل تقديم وتأخير السلطة لا حدهما على الآخر بين آونة وأخرى لأغراض وأسباب شتى - تلك الساحة، بيد إن ما ذكرناه من حالة تراخي قبضة السلطة عن علماء الشيعة ومفكريهم، وتعاطف البويهيين - الذي أحكموا قبضتهم على بغداد آنذاك -

(1) استقلت الكثير من المدن الإسلامية الكبرى أبان تلك الحقبة عن الحكومة المركزية التي لم يعد لها سوى وجود رمزي في بغداد، فقد استقلت الموصل وأطرافها بأيدي الحمدانيين، واستقل بنو بويه بفارس والري وأصفهان والجبل، وأما خراسان فكانت حصة السامانيين، والأهواز والبصرة وواسط للبريدين، والبحرين للقرامطة، وطبرستان للديلم، وكرمان لمحمد بن إلياس.
(١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 ... » »»