الأعلام - خير الدين الزركلي - ج ٨ - الصفحة ٢٥
وظفرت بما يجلو بعضه. ولد ونشأ بالإسكندرية. وانتقل إلى القاهرة، فكان فيها من عشراء الأمراء. وكتب إلى فقهاء " المدرسة الحافظية " بالإسكندرية، ولعله كان من تلاميذها، يقول، بعد أبيات: " كتبت أطال الله بقاء موالي الفقهاء أنجم المهتدين وصواعق المعتدين، من مصر حرسها الله، وقد خرجت بظاهرها ليلة الجمعة للنزهة مع الأمراء أدام الله علي امتداد ظلهم. " وضمن رسالته هذه قصيدة، قال فيها:
" أرى الدهر أشجاني ببعد، وسرني * بقرب، فأخطأ مرة، وأصابا " " فإن أرتشف شهد الدنو فإنني * تجرعت للبين المشتت صابا " ثم عاد إليها. ولقي فيها أبا الحسن " سعيد ابن غزال السامري كاتب الضرغام " وطلب من أبي الحسن شيئا من شعره وبعض ترسله ليضمنهما كتابا له سماه " مواطر الخواطر " ويجعلهما " نجمي حلكه، في فلكه، ودري نحره في بحره " كما جاء في رسالة كتبها بعد ذلك إليه. وزار صقلية (سنة 563) وكان له فيها أصدقاء، يكاتبهم ويكاتبونه، منهم القائد " غارات بن جوسن خاصة المملكة الغليلمية " والشيخ " ابن فاتح " و " السديد الحصري " وأخصهم القائد أبو القاسم بن الحجر، وقد صنف فيه " الزهر الباسم في أوصاف أبي القاسم ". وكان يكثر النزول بعيذاب (من ثغور البحر الأحمر، شمالي جدة) ومنها كتب إلى الوزير (الإسماعيلي) الأديب " أبي بكر العيدي " في عدن، أنه كان يعد نفسه بزيارته، وكانت نفسه تقتضيه الوعد:
" على أني عرضت عليها السير وإزعاجه، والقفر ومنهاجه، والبحر وأمواجه، فأبت إلا البدار، وأنشدت: من عالج الشوق لم يستبعد الدار. " ويذكر في الرسالة عمارة اليمني المعروف أو المتهم بصلته بالإسماعيلية فيقول:
" ما زال يختصر لي قرآن محامد الحضرة في سورة، ويجمع لي العالم منها في صورة، حتى رأى السفر وآلاته " إلى أن يقول: " وقد علمت الحضرة أن السفر إليها، فليكن السكن والسكون مضمونا لديها محسنة مجملة إن شاء الله تعالى ". ودخل عدن (سنة 565) ثم غادرها مبحرا في تجارة.
وارتطمت سفينته بصخرة في جزيرة " نخرة " بضم النون وسكون الخاء (وسماها ابن خلكان جزيرة الناموس؟) قرب دهلك (قال ياقوت: ويقال له دهيك أيضا، وهو مرسى في جزيرة بين بلاد اليمن والحبشة) فتبدد " ثلثا " ما معه من فلفل وبقم وسواهما.
وأسعفه سلطان دهلك " مالك بن أبي السداد " بالطعام والملابس، له ولرجاله، وأنزله عنده. واستكتبه في منتصف جمادي الآخر (566) رسالة إلى " السيد عبد النبي بن مهدي " صاحب زبيد، ورسالة أخرى (غير مؤرخة) إلى " القاسم بن الغانم بن وهاس الحسني صاحب بلاد عثر، بين الحجاز واليمن " وكتب هو، في غرة رجب 566 إلى " أبي بكر العيدي " الوزير بعدن، اثنتي عشرة صفحة صغيرة، هذه فقرات منها: ".. من جانب الصخرة، بنخرة.. وشوقي يكاثر الفلفل المبدد في السواحل، والبقم المفرق في المراحل..
ما زالت تترامى بنا الأفواج والأمواج، حتى استأثرت. بأموالنا وآمالنا. نعم، قد سلم الثلث، والثلث كثير، وحصلنا بجزيرة دهلك، والسلطان المالك ابن أبي السداد.. ساعدني بالبز والبر..
ووثقت منه بوعد في خروجي هذه السنة عند عود رسوله من بر العرب " ثم يحدثه ببعض الاخبار: " ووردت كتب مضمنة جملة من الاخبار المصرية، منها أن السلطان الاجل صلاح الدين.
غزا غزة من بلاد الفرنج خذلهم الله، وكسر، وأسر، وعاد غانما والحمد لله، ورفع المكوس، وجعل دار الشحنة بمصر مدرسة للعلم ". ثم يخبره بنجاة أشياء (لعلها هدايا) كان قد سلمها إليه، ويذكر بعضها ويقول:
" وحصر ذلك يستدعي زمانا، وبيانا، وبنانا، ولسانا، وجنانا، وإمكانا، وهذيانا! فالعذر في تركه واضح " ويقول: " كانت معي كتب كتب البحر عليها المحو، فلا شعر ولا لغة ولا نحو! لم يسلم سوى ديوان شعر ابن الهبارية، بعد أخذه من البلل.
ضاع شعري كله، وانحط عن متن نظري فيه كله (أي ثقله) فقد كنت لا أخلو من إصلاح فاسد، ومداراة حاسد " ويخبره بأنه بدأ بنظم قصيدة فيه، مطلعها:
" وشى بسرك عرف الريح حين سرى " وأنه نظم قصيدة في " السلطان المالك " أولها:
" قفا فاسألا مني جفونا وأضلعا " وكتب إليه في رسالة أخرى، يشكو طول الإقامة بدهلك، ويقول: " ولولا أن يعثر القلم لجرى وجر، وسرى وما سر، فقد امتلأت المسامع بسوف، وعلمت المطامع أنها بوادي عوف!
وكنت أمنع بيع الشعر في زمن أقل ما يتشارى فيه بالذهب، فصرت أصرفه بالبخس. نعم نزلت على أم العنبر، فلعنت البحر مع البر " ثم يقول:
" تسلفت من التجار بزا. واشتريت به من العبيد، وعولت على قطع البيد، إلى زبيد. وأدخل من هناك إلى عدن " وقد فعل. وهذه قصة غرقه، كتبها بقلمه، وانتفى بها زعم المؤرخين جميعا بأنه " غرق جميع ما كان معه وعاد إلى أبي الفرج - ياسر بن بلال المحمدي - وهو عريان! " ومع ما يلاحظ من ضيق صدره في دهلك (وقد هجاها وصاحبها مالكا، ببيتين ذكرهما ياقوت) فإنه كان على اتصال بالسلطان، في مصر.
وهذه فقرات من " كتاب سلطاني "
(٢٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 ... » »»