تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٤٩١
* واستعجلونا وكانوا من صحابتنا * كما تعجل فراط لوراد * ومنه (أنا فرطكم على الحوض) أي متقدمكم. وقال ابن جبير، ومجاهد، وابن أبي هند: مفرطون مخلفون متروكون في النار من أفرطت فلانا خلفي إذا خلفته ونسيته. قال أبو البقاء: تقول العرب أفرطت منهم ناسا أي خلفتهم ونسيتهم. وقرأ أبو جعفر: مفرطون مشددا من فرط أي: مقصرون مضيعون. وعنه أيضا: فتح الراء وشدها أي، مقدمون من فرطته المعدى بالتضعيف من فرط بمعنى: تقدم. ثم أخبر تعالى بإرسال الرسل إلى أمم من قبل أممك، مقسما على ذلك ومؤكدا بالقسم وبقد التي تقتضي تحقيق الأمر على سبيل التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم) لما كان يناله بسبب جهالات قومه ونسبتهم إلى الله ما لا يجوز، فزين لهم الشيطان أعمالهم من تماديهم على الكفر، فهو وليهم اليوم حكاية حال ماضية أي: لا ناصر لهم في حياتهم إلا هو، أو عبر باليوم عن وقت الإرسال ومحاورة الرسل لهم، أو حكاية حال آتية وهي يوم القيامة. وأل في اليوم للعهد، وهو اليوم المشهود، فهو وليهم في ذلك اليوم أي: قرينهم وبئس القرين. والظاهر عود الضمير في وليهم إلى أمم. وقال الزمخشري: ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش، وأنه زين للكفار قبلهم أعمالهم، فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم. ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي: فهو ولي أمثالهم اليوم انتهى. وهذا فيه بعد، لاختلاف الضمائر من غير ضرورة تدعو إلى ذلك، ولا إلى حذف المضاف. واللام في لتبين لام التعليل، والكتاب القرآن، والذي اختلفوا فيه من الشرك والتوحيد والجبر والقدر وإثبات المعاد ونفيه، وغير ذلك مما يعتقدون من الأحكام: كتحريم البحيرة، وتحليل الميتة والدم، وغير ذلك من الأحكام. وهدى ورحمة في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله، وانتصبا لاتحاد الفاعل في الفعل وفيهما، لأن المنزل هو الله وهو الهادي والراحم. ودخلت اللام في لتبين لاختلاف الفاعل، لأن المنزل هو الله، والتبيين مسند للمخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم). وقول الزمخشري: معطوف محل لتبين ليس بصحيح، لأن محله ليس نصبا فيعطف منصوب عليه. ألا ترى أنه لو نصبه لم يجز لاختلاف الفاعل؟.
والله أنزل من السماء ماء قال أبو عبد الله الرازي: المقصود من القرآن أربعة: الإلهيات، والنبوات، والمعاد، والقدر، والأعظم منها الإلهيات فابتدأ في ذكر دلائلها بالأجرام الفلكية، ثم بالإنسان ثم بالحيوان، ثم بالنبات ثم بأحوال البحر والأرض، ثم عاد إلى تقدير الإلاهيات فبدأ بذكر الفلكيات انتهى ملخصا. وقال ابن عطية: لما أمره بتبيين ما اختلف فيه قص العبر المؤدية إلى بيان أمر الربوبية، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وهي في غاية الظهور، ولا يختلف فيها عاقل انتهى. ونقول: لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة الأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد، ولذلك ختم بقوله: لقوم يؤمنون أي: يصدقون. والتصديق محله القلب، فكذا إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب لبقائها. ثم أشار بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن، كما قال تعالى: * (أو من كان ميتا فأحييناه) * فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها، كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتا بالجهل. وكذلك ختم بقوله: يسمعون هذا التشبيه المشار إليه، والمعنى: سماع إنصاف وتدبر، ولملاحظة هذا المعنى والله أعلم لم يختم بلقوم يبصرون، وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد. وقال ابن عطية: وقوله يسمعون، يدل على ظهور هذا المعتبر فيه وتبيانه، لأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر، وإنما يحتاج البتة إلى أن يسمع القول فقط.
* (وإن لكم فى الانعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سآئغا للشاربين خالصا سآئغا للشاربين *
(٤٩١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 486 487 488 489 490 491 492 493 494 495 496 ... » »»