تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٢٠٦
أحسن عملا وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن، فأما أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتهما إلى حسن وقبيح؟ (قلت): الذين هم أحسن عملا هم المتقون، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض الله منن عباده، فخصهم بالذكر، واطرح ذكر من وراءهم تشريفا لهم وتنبيها على مكانهم، وليكون ذلك تيقظا للسامعين وترغيبا في حيازة فضلهم انتهى. ولئن قلت، خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم). وقرأ عيسى الثقفي: ولئن قلت بضم التاء إخبارا عنه تعالى، والمعنى: ولئن قلت مستدلا على البعث من بعد الموت، إذ في قوله تعالى: وهو الذي خلق، دلالة على القدرة: العظيمة، فمتى أخبر بوقوع ممكن وقع لا محالة، وقد أخبر بالبعث فوجب قبوله وتيقن وقوعه. وقرئ: أيكم بفتح الهمزة. قال الزمخشري: ووجهه أن يكون من قولهم: ائت السوق إنك تشتري لحما، بمعنى علك أي: ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون بمعنى توقعوا بعثكم وظنوه، لأثبتوا القول بإنكاره لقالوا: ويجوز أن يضمن. قلت معنى ذكرت انتهى يعني: فبفتح الهمزة لأنها في موضع مفعول ذكرت، والظاهر الإشارة بهذا إلى القول أي: إن قولك إنكم مبعوثون إلا سحر أي بطلان هذا القول كبطلان السحر، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما دلت عليه الجملة من البعث. أي: إن البعث. وقيل: أشاروا بهذا إلى القرآن، وهو الناطق بالبعث، فإذا جعلوه سحرا فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره. قال ابن عطية: كذبوا وقالوا: هذا سحر، فهذا تناقض منهم إن كان مفطورا بقربات الله فاطر السماوات والأرض فهو من جملة المقرب بهذا، وهم مع ذلك ينكرون ما هو أيسر منه بكثير وهو البعث من القبور، إذ البداءة أعسر من الإعادة، وإذ خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس انتهى. وقرأ الحسن، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، وفرقة من السبعة: سحر. وقرأت فرقة: ساحر، يريدون والساحر كاذب مبطل، ولئن أخرنا حكى تعالى نوعا آخر من أباطيلهم واستهزائهم، والعذاب هنا عذاب القيامة. وقيل: عذاب يوم بدر. وعن ابن عباس: قتل جبريل المستهزئين، والظاهر العذاب الموعود به، والأمة هنا المدة من الزمان قاله: ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والجمهور، ومعناه: إلى حين. ووقت معلوم ما يحبسه استفهام، قالوه وهو على سبيل التكذيب والاستهزاء. قال الطبري: سميت المدة أمة، لأنها يقضي فيها أمة من الناس وتحدث أخرى، فهي على هذا المدة الطويلة، ثم استفتح الأخبار بأنه يوم لا يرده شيء ولا يصرفه. والظاهر أن يوم منصوب بقوله: مصروفا، فهو معمول لخبر ليس. وقد استدل به على جواز تقديم خبر ليس عليها قالوا: لأن تقدم المعمول يؤذن بتقدم العامل، ونسب هذا المذهب لسيبويه، وعليه أكثر البصريين. وذهب الكوفيون والمبرد: إلى أنه لا يجوز ذلك، وقالوا: لا يدل جواز تقدم المعمول على جواز تقدم العامل. وأيضا فإن الظرف المجرور يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، ويقعان حيث لا يقع العامل فيهما نحو: إن اليوم زيدا مسافر، وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقدم خبر ليس عليها، ولا بمعموله، إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية، وقول الشاعر:
* فيأبى فما يزداد إلا لجاجه * وكنت أبيا في الخفا لست أقدم * وتقدم تفسير جملة وحاق بهم.
* (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير) *: لما ذكر تعالى عذاب الكفار وإن تأخر لا بد أن يحيق بهم، ذكر ما يدل على كفرهم وكونهم مستحقين العذاب لما جبلوا عليه من كفر نعماء الله، وما يترتب على إحسانه تعالى إليهم مما لا يليق بهم من فخرهم على عباد الله. والظاهر أن الإنسان هنا هو جنس، والمعنى إن هذا الخلق في سجايا الناس، ثم استثنى منهم الذين ردتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح، ولذلك جاء الاستثناء منه في قوله: إلا الذين صبروا متصلا. وقيل: المراد هنا بالإنسان الكافر
(٢٠٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 201 202 203 204 205 206 207 208 209 210 211 ... » »»